الجمعة، 9 مارس 2012

تمموا.................لان الله.......


حالة السجن

من عدة سنوات رأيت فيلما مصريا باسم "سوق المتعة" بطولة الفنان محمود عبد العزيز والذي يحكي قصة رجل بسيط اتهم ظلماً في قضية لتجارة المخدرات ودخل السجن لمدة 25 عاماً وبعد ان خرج فوجئ ببعض الاشخاص في استقباله وانهم مستعدين ان يفعلوا له كل ما يريد بالإضافة الى حصوله على ثروة طائلة قد كافئه بها الرجل الذي استحق السجن بالفعل ولكنه في وسط هذه الدهشة والمفاجأة وجد نفسه غير قادرعلى نزع فكرة السجن والذي تعود عليه مدة 25 سنة فاشترى بيت كبير خارج المدينة واحضر زملاء السجن ليعيشوا معه حتى انه احضر واحد منهم هو الاخطر والذي كان يقمعهم في السجن , فالبطل لم يقدر ان يعيش حريته حتى انه في نهاية الفيلم قتل من سجنه.
عندما سقط ابونا آدم في خطيته سقطت معه البشرية بالكامل وحكم عليها بالموت وكأن  الحياة اصبحت فترة سجن قبل تنفيذ حكم الموت، وفي السجن لاقى الانسان جميع انواع الفجور والظلم وغياب العدالة، السرقة والقتل والزنى والكذب وملأت الكراهية الارض في غياب قداسة الله وبره وحضور غضبه على كل الجنس البشري. وفي السجن ايضاً ظلمة فقد تعود البشر الا يروا الحقيقة والا يمارسوا الحق وغاب عنهم النظام وحضرت الهمجية فتعود البشر على العبودية وان يساقوا ممن هم اقوى واحكم حتى أصبح الحاكم هو الحكيم وابليس هو الاله فسجدوا للأوثان وعبدوا المخلوق وتركوا الخالق.
العهد
وكانت فكرة الخلاص عند الله من قبل الازمنة الازلية كما يقول بولس الرسول (تي 1: 2) وتمثلت في العهد مع الانسان ان يكون لهم الها ويكونون له شعباً وتدرجت العهود حتى تجلت في ملء الزمان في شخص يسوع المسيح (غل 4:4) الذي جاء ليخلص ما قد هلك (مت 18: 11) ولقد اخلى نفسه اخذا صورة عبد صائراً في شبه الناس (في 2: 8) وقد وجد في الهيئة كانسان ليخلص المسجونين وينادي لهم بالعتق (اش 61: 1) , لقد جاء الملك ليدين الخطية في الجسد (رو 8: 3) وبذلك هزم المسيح قوى الشر وقيد ابليس ولم يصير للسجان سلطان فيما بعد بل جاء المسيح ليحررنا من سلطان الخطية والموت وانقذنا من الظلمة ونقلنا الى ملكوت ابن محبته (كو1: 13) .ايضاً جاء يسوع المسيح ليحمل عنا عار الخطية وحكم الموت الذي صدر على الانسان فور سقوطه (اش 53: 4-6) وبذلك تحررنا من سلطان الموت لتصير لنا الحياة الابدية. ولقد صالحنا المسيح مع الآب بالصليب, وسكب في قلوبنا محبة روحه القدوس, لنصير محبين لله ومحبين لبعضنا البعض ونكون واحد في المسيح، وارانا المسيح ورسله كيف نعيش الحق ونحيا البر من خلال اتباعنا لشخصه وتعاليمه.
لماذا نتعب؟
فماذا إذا؟ ولماذا نعيش وما زلنا نخطئ؟ وإذا كان الله الذي اختارنا منذ البدء حسب قصده وحسب مسرة مشيئته فلما الدعوة لان نجاهد وان نتمم خلاصنا... هل لنا يد في خلاصنا؟ اذا فما هو دور الانسان؟؟؟
ان دور الانسان يرتبط بفساد طبيعته, فنحن نحب  الظلمة ونستأنس المرض فهو ما تعودنا عليه فالتغيير متعب والتشكيل مؤلم , نحن نستحسن ان نظل على حالتنا الاولى- حالة السجن وسلطان الموت, فالنور الالهي يزعج اعيننا التي استظلت بغمامة ابليس وقوة القيامة تؤلم ظهورنا التي استراحت بالشلل المميت فالظلمة لا تكشف ما هو باطل والموت اسهل من الحياة وسط آلام التشكيل وعناء المحاولة وتصديق الحق والتعلم من الاله المتجسد كلها امور صعبة الفهم والمشكلة اننا نعيش فكرة الظلمة والموت مسجونين داخل اذهاننا وغير مصدقين لعمل النعمة مثلما سُجن بطل الفيلم داخل ما تعود عليه لمدة 25 عام ولم يعد يقدر ان يعيش واقع الحرية فها نحن امام انفسنا نتلذذ بالظلمة .
ان يد المسيح يسوع هي الوحيدة القادرة على النهوض بنا ظيمة الخطية, وما يؤلمنا هو مقاومتنا لروح الله ومحبتنا لدائرة الظلمة - دائرة راحتنا.
تقديس الروح
من ينقذنا من جسد هذا الموت؟ (رو7: 24) لذلك يدعونا الرسول بولس تمموا خلاصكم بخوف ورعدة افعلوا كما فعل الرسول واسمعوا لكلام السيد فصعب علينا ان نرفس مناخس، صعب علينا ان نخبط في الصخر وتعلو صرخاتنا لله منادية: نحن لا نريد ان تنفتح اعيننا ولا نريد ان نقوم ونمشي ونعيش الحق المحرر. فمن غير الممكن ان نقاوم نعمة الله. لماذا؟ - لان الله هو العامل فيكم ان تريدوا وان تعملوا من اجل المسرة: سوف نتعلم لا محالة وسوف تفتح اعيننا لأننا "ابناء" والله لا يعمل فقط في ظروف ومواقف حياتنا ولكن يعمل ايضاً في ارادتنا كي نتغير الى تلك الصورة عينها لنصير مشابهين صورة ابنه.
فمهما صرخ الابن في وجه ابيه وتذلل له كي لا يذهب الى المدرسة فلن يسمع الاب وسيدخل ابنه الى المدرسة لأنه يعي تماما ان المحبة الحقيقية ليست في تدليل الابن ولكن في تعليمه وتقويمه وهذا ما يفعله الله معنا فهو العامل فينا ان نفكر ونسلك بإرشاد روحه القدوس وليس بهوى عقولنا.
ان مسرة الله ان نمجده,وهذه المسرة ليست عن احتياج او تسلط, بل عن نعمة, فتمجيدنا لله هو طريق الحياة والرجاء بالنسبة لنا, وتمجيدنا لاي امور اخرى في حياتنا, يهوى بنا الى الالم والموت.
لذلك فمسرة الله ان نمجده لكي نُسر ويُسر هو بابنائه, ولكن ما هو الطريق لتمجيد الله؟
لا يمكن ان نمجد الآب دون ان نتمثل بالابن فلابد ان نعيش حياة الابن يسوع المسيح الذي هو الوحيد القادر على تمجيد الآب:
  • فقد مجَّد يسوع المسيح الآب في حياته وتمم كل الوصايا بطاعته وخضوعه لابيه, ورفضه لتجربة ابليس, فتتميم خلاصنا هو ان نكون في المسيح المُتمم للقداسة.
  • ومجده ايضاً في موته على الصليب, فقد اطاع حتى الموت وثابر حتى النهاية,حاملاً خطايانا, وفي وسط خوف ورعدة الصليب صار لنا خلاصا من كل خوف وظلمة, لذلك ونحن في المسيح نتمم خلاصنا ليس بتدين ظاهري, ولكن بموت وبأن نصلب معه ذواتنا. انه كما اخلى ذاته علينا ايضا ان نخلي ذواتنا ونعيش الصليب.
  • وبقيامة يسوع المسيح من الموت اُعلن مجد الآب بالتمام, واعلن في المسيح استرداد البشرية الساقطة بغفران الخطايا, ورجاء الحياة الابدية, ليتحد المسيح بنا ونقوم بقيامته, فلن نتمم خلاصنا دون ان نعيش القيامة ونتحدى طبيعتنا المائتة بقيامة المسيح.
  • لم يتوقف عمل المسيح عند القيامة بل ارسل الروح القدس لكنيسته لتكون جسده, وتعكس صورته وعمله وتكرز باسمه في كل الارض, فعندما نعلن اسم المسيح نتحد بارساليته, ونعيش انجيله, فمن بعيش الفرح يعلن عن الفرح ومن يعيش الظلمة, يتخبط ويذبُل.https://www.facebook.com/notes/magued-g-hakeem/%D8%AA%D9%85%D9%85%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87/345166588858858

الاثنين، 5 مارس 2012

اللوجــوس



«لوجوس» كلمة يونانية تعني «قول» أو «كلام» أو «فكر» أو «عقل» أو «معنى» أو «دراسة» أو «علم» (وهذا المعنى الأخير هو المقطع «أولوجي ology» الذي يظهر في كلمات مثل «جيولوجي» أو «سيكولوجي»... إلخ بمعنى «علم الأرض» أو «علم النفـس»... إلخ. وقد تطوَّر معنى الكلمة ليصبح «الأسـاس» و«المطـلق» و«الحضور» (في مصطلح ما بعد الحداثـة). وسنلاحظ أن ثمة نمطاً أساسياً هو التأرجح بين اللوجوس كفكرة مجردة متجاوزة واللوجوس كتجسد وحلول وكمون.

ا ـ في العبادة اليونانية:

يبدو أن الكلمة تعود إلى العبادة اليونانية القديمة، فكلمة «لوجوس» فيها تشير إلى كلمة الإله أو الآلهة إذ هي تبليغ يأتي للنبي بالوحي الإلهي والحكمة والإرشاد، والنبي هو إنسان يوحى إليه بالكلمة المقدَّسة (لوجوس) ويوصلها للنـاس. لكن فكرة التبليغ بدأت في التراجع وبدأ التجـسد في التزايد فأصبح كلام النبي نفسـه لوجوس (وهذا الصراع، بين التبليغ والتجسد، هو صراع بين التوحيد والتجاوز من جهة، والحلولية الواحدية ووحدة الوجود من جهة أخرى).

ب ـ في الفلسفة اليونانية القديمة:

 استخدم بعض الفلاسفة اليونانيين (هرقليطس مثلاً) هذه الكلمة، فأصبح اللوجوس المبدأ الذي يسير الكون من خلاله، وهو الذي يفسر الثبات وراء التغير والنظام وراء الفوضى. فالأشياء رغم تنوعها تحدث حسب اللوجوس. ويبدو أن هرقليطس كان يرى أن اللوجوس له وجود أو تجلٍّ مادي مثل النار، فكأن اللوجوس لم يعد كلمة أو مبدأ وإنما تجسُّد في الكون على هيئة عنصر. ويعتبر اللوجوس فكرة أساسية عند الرواقيين بنزعتهم الحلولية التي تقرن بين الإله والطبيعة. وهم، مثل هرقليطس، يرون أن اللوجوس قوة مادية في العالم (النار الأزلية) تسري في كل الكائنات باعتبارها مصدر الحياة أو العلة السببية والمشتركة، الخالقة والحافظة والمقومة لجميع الأشياء، والتي تُنظم الكون وتحقق التوازن بين العناصر كافة، فهي العناية الإلهية أو القصد الإلهي وهي أيضاً روح الإنسان. واللوجوس أزلية كما أنها روح الكون.

ج ـ اللوجوس أورثوس واللوجوس سبرماتيكوس:

من الاستخدامات الأخرى لكلمة «لوجوس»، اصطلاح «لوجوس أورثوس» أي «العقل السليم»، أو «الحجة السليمة» (وكلمة «أورثو» هي تلك الموجودة في كلمة «أورثوذكس» أي «العقيدة السليمة»). وقد استخدم السفسطائيون اصطلاح «لوجوس أورثوس» للإشارة إلى المبادئ والقواعد المنطقية التي ينبغي اتباعها للوصول إلى الاستنتاجات السليمة التي يمكن استخدامها لتقديم وجهة نظر ما بطريقة سليمة. وقد استخدم الرواقيون (من اليونانيين والرومان) العبارة اللاتينية «ريكتا راتيو recta ratio» للإشارة إلى النظام أو القانون السليم أو الضرورة التي يجب أن تمتثل لها أفعال الإنسان والعنصر العاقل الكامن في كل الأشياء. فكأن اللوجوس هنا هو الراتيو (التي اشتُّقت منها كلمة «راشيوناليزم rationalism» أي «العقلانية»).
وقد استخدمت الكلمة أيضاً في الفلسفة الرواقية في عبارة «لوجوس سبرماتيكوس logos spermaticus» بمعنى «الكلمة التي تعطي الحياة»، وهي عبارة تعني أن الكلمة بمنزلة البذرة أو المنيّ أو سائل الحياة الذي يُنثَر في العالم بأسره فيسبب الولادة والنمو والتغيُّر في كل الأشياء (وهنا تظهر واحدة من أهم مفردات وحدة الوجود). وإذا كان العالم من منظور اللوجوس أورثوس يشبه الآلة التي تُدار من الخارج، فهو هنا يشبه الكائن الحي. وتحوي اللوجوس سبرماتيكوس سائل الحياة الذي يحوي بدوره عدداً غير متناه من الحيوانات المنوية تقوم كل واحدة منها بخلق أو توليد كيانات، لكلٍّ منها هدف مستقل، ومع هذا فهي جميعاً متناغمة متساوية. [1]

د ـ فيلو:

استخدم فيلو مفهوم اللوجوس باعتباره القانون قبل أن يُخلق ويُرسل إلى الأرض، والمثال والنموذج الذي خلق الإله العالم وفقاً له (كما يقول أفلاطون)، وهو أيضاً العقل الكوني قبل خلقه، والوسيط الذي خلق الإله العالم به (كما يصنع الفنان بالآلة) والذي نعرف الإله به وهو الشفيع لنا عنده. وهو كذلك ملاك الإله المذكور في التوراة الذي ظهر للآباء وأعلن لهم أوامره. ولكن اللوجوس مع تصاعُد معدلات الحلول يصبح كامناً في جميع المخلوقات، ولذا فهو العقل والعاقل والمعقول (وهو العبد والمعبود والمعبد).
ويمكن القول بأن اللوجوس هو الركيزة والمرجعية النهائية التي قد تكون إما كامنة في الطبيعة أو متجاوزة لها، أو كامنة فيها متجاوزة لها في آن واحد. وإن جاز لنا استخدام اللوجوس كمقولة تحليلية، ذات دلالة عامة في مجال مقارنة الأديان فيمكننا القول بأن اللوجوس هو النقطة التي يلتقي فيها الإله (المطلق) مع الإنسان (النسبي) داخل التاريخ والزمان ليتواصل معه وأن هذه هي الإشكالية الأساسية التي تواجهها كل الأديان ويحلها كل دين بطريقة مختلفة، نابعة من رؤيته. وقد أخذ اللقاء بين الإنسان (النسبي) والإله (اللوجوس و المطلق) في حالة اليهودية شكل حلول الإله في الماشيَّح وفي التوراة ثم في التلمود وأخيراً في الشعب اليهودي الذي يصبح بذلك مركز خلاص البشرية جمعاء. ثم تعمَّق المفهوم مع انتقال اليهودية إلى تربة مسيحية (فقد عاش معظم أعضاء الجماعات اليهودية ابتداءً من القرن الرابع عشر في أوربا). فازداد مفهوم اللوجوس مركزية وشيوعاً، ونجد أن التراث الحاخامي يجعل المشناه هي اللوجوس. أما التراث القبَّالي فيخلع هذه الصفة على الشعب اليهودي الذي لم يعد مجرد تجسد للإله بل أصبح جزءاً لا يتجزأ منه (والشخيناه هي الشعب اليهودي وهي أيضاً اللوجوس). ويرى القبَّاليون أن اسم الإله الأعظم (اللوجوس) هو أكبر تَركُز للحضور الإلهي ("في البدء كانت الكلمة"، أي أن الكلمة هي الأصل). ومن يفك شفرة هذا الاسم، ستتدفق فيه القداسة والحضور الإلهي ويمكنه الإتيان بالمعجــزات والســيطرة على العالم، مثل التسـاديك الـذي يُســمَّى «بعل شيم طوف»، وهي عبارة عبرية يمكن ترجمتها بعبارة «صاحب اللوجوس». ويرتبط السحر بين أعضاء الجماعات اليهودية بهذا المفهوم. [2]
وفي اللاهوت المسيحي، أصبحت كلمة «لوجوس» تعني «المسيح وابن الإله قبل أن ينزل إلى الأرض»، وهو الأقنوم الثاني، وهو ليس منفصلاً عن الأب وإن كان متميِّزاً عنه. واللوجوس مولود من المادة الإلهية نفسها قبل بدء الخليقة (مي 5: 2). وهو قائم في الله منذ الازل ثم خرج إلى الكون متأنسا. فالمسيح هو تأنس الإله (المطلق) في الزمان (النسبي) ينزل ويُصلَب ويقوم. وبعد قيامه، يعود المسيح إلى الأب، وتصبح الكنيسة (جسد المسيح) اللوجوس المتجسد.
ويرى البعض أن اللوجوس في الإسلام هو القرآن (نقطة لقاء المطلق بالنسبي) على اعتبار أن القرآن هو كلمة الإله المطلقة وعلى اعتبار أنه كان قائماً بذات الإله باعتباره صفة من صفاته تعالى، ثم تشخَّص تلاوة وسماعاً وكتابة في الوجود الكوني. ويؤكد المسلمون أن هذه ليست حالة تجسد وإنما مجرد تبليغ وتذكير (لفظي)، فالعلاقة القائمة في حالة التجسد هي علاقة توالد (وهو ما عبَّر عنه القرآن بقوله: "وقالت النصارى المسيح ابن الله"، وجاء على لسان بني إسرائيل "نحن أبناء الله"). أما العلاقة بين كلام الله القائم بذاته والقرآن المتلو أو المكتوب في المصاحف فهي علاقة الدال والمدلول اللذين لا يلتحمان أبداً إذ تظل هناك مسافة بينهما، هي صدى للمسافة بين الخالق وكل مخلوقاته (الإنسان والطبيعة). والرسول ليس تجسداً، فهو ليس إلا حاملاً للرسالة المكتوبة ولا يكتسب أية عصمة وإن كان يكتسب مكانة خاصة لا تماثلها مكانة.
وتستند كل المنظومات المعرفية العلمانية إلى ركيزة نهائية (لوجوس) كامنة في المادة تكون بمنزلة العنصر الأساسي الذي يمكن من خلاله تفسير الكون. وهي ما يمكن تسميته «المطلق العلماني» وكلها تنويعات على المطلق العلماني النهائي: الطبيعة/المادة. والدولة في النسق الصهيوني هي اللوجوس الجديد (والعجل الذهبي) الذي يحل محل الإله في النسق الحلولي التقليدي. وتتهم فلسفة ما بعد الحداثة كل الفلسفات الغربية بأنها "متمركزة حول اللوجوس"، أي ملوثة بالميتافيزيقا، ويحاول أنصار ما بعد الحداثة تأسيس نسق فلسفي بدون لوجوس ومن ثم بدون مركز وبدون ميتافيزيقا بل بدون حقيقة.[3]
اللوجوس عند اثناسيوس:
1-    من الضروري عندما نتحدث عن ظهور المخلّص بيننا، أن نتحدث عن بداية خلق البشر، ولكي تعلم أن نزوله إلينا كان بسببنا، وأن تعدِّينا استدعى تعطف الكلمة، لكي يأتي الرب مسرعًا لمعونتنا، ويظهر بين البشر.
2-     فلأجل قضيتنا تجسد لكى يخلّصنا، وبسبب محبته للبشر قَبِلَ أن يتأنس ويظهر في جسد بشري .
3-     وهكذا خلق الله الإنسان وكان قصده أن يبقى في غير فساد . أما البشر  فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكروا في الشر وابتدعوه لأنفسهم كما أشرنا أولاً ، فقد حكم عليهم بحكم الموت الذي سبق إنذارهم به، ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد كما خُلقوا ، بل إن أفكارهم  قادتهم إلى الفساد ومَلَك  عليهم الموت. لأن تعدي الوصية أعادهم إلى حالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجِدوا من العدم هكذا أيضًا بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن .
4-     فإن كانوا وهم في الحالة الطبيعية ـ حالة عدم الوجود، قد دعوا إلى الوجود بقوة الكلمة وتحننه، كان طبيعياً أن يرجعوا إلى ما هو غير موجود (أى العدم)، عندما فقدوا كل معرفة بالله . لأن كل ما هو شر فهو عدم، وكل ما هو خير فهو موجود . ولأنهم حصلوا على وجودهم من الله الكائن، لذلك كان لابد أن يُحرموا إلى الأبد، من الوجود. وهذا يعني انحلالهم وبقائهم في الموت والفساد (الفناء).
1-     فالإنسان فانٍ بطبيعته لأنه خُلق من العدم إلا أنه بسبب خلقته على صورة الله الكائن  كان ممكنًا أن يقاوم قوة الفناء الطبيعي ويبقى في عدم فناء لو أنه أبقى الله في معرفته كما تقول الحكمة "حفظ الشرائع تحقق عدم البلى" ، و بوجوده في حالة عدم الفساد (الخلود) كان ممكنًا أن يعيش منذ ذلك الحين كالله  كما يشير الكتاب المقدس إلى ذلك حينما يقول " أنا قلت إنكم آلهة. وبنو العليّ كلكم، لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون" .[4]
اللوجوس لدى جون كالفن:
الكلمة هي التي عبر بها الله عن خلاصه للبشر من خلال ابنه يسوع المسيح


[1] YU, NICHOLAS BUNNIN AND JIYUAN. The Blackwell Dictionary of Western Philosophy. Oxford: blackwell publishing, 2004.

[2] Skolnik, Fred and Shlomo S. (Yosh) Gafni Rachel Gilon Michael Berenbaum. ENCYCLOPAEDIA JUDAICA, Second Edition. Macmillan: Keter Publishing House Ltd., 2007.

[3] Dean L. Overman. A Case for the Divinity of Jesus EXAMINING THE EARLIEST EVIDENCE. Plymouth PL6 7PY: ROWMAN & LITTLEFIELD PUBLISHERS, INC.، 2010 by.
Fred Skolnik و Shlomo S. (Yosh) Gafni Rachel Gilon Michael Berenbaum. ENCYCLOPAEDIA JUDAICA, Second Edition. Macmillan: Keter Publishing House Ltd.، 2007.James D. G. Dunn. The Evidence for Jesus. Philadelphia: The Westminster Press، 1985.NICHOLAS BUNNIN AND JIYUAN YU. The Blackwell Dictionary of Western Philosophy. Oxford: blackwell publishing، 2004.Norman L. Geisler. Baker Encyclopedia of Christian Apologetics. london: Baker Books، 1999.Pamela E. Kinlaw. The Christ Is Jesus. Atlanta: Society of Biblical Literature، 2005.
Stanley E. Porter. Dictionary of Biblical Criticism and Interpretation. New York: Simultaneously، 2007.

[4] القديس اثناسيوي الرسولي. تجسد الكلمة. القاهرة: مؤسسة القديس انطونيوس، 2004.

الكهنوت عند آباء الكنيسة


Contents





















مقدمة:

الكهنوت لدى الآباء الرسوليين
حين نقرأ مؤلّفات الآباء الأولين، ندهش بسبب المعلومات الضئيلة التي يقدّمونها عن الكهنوت. بعضُ هذه المؤلّفات دونّها أساقفة مثل أغناطيوس أسقف أنطاكية، بوليكربوس أسقف إزمير، ايريناوس أسقف ليون (فرنسا)، قبريانس أسقف قرطاجة. وأخرى دوّنها أوريجانس وترتليانس، وهرماس، ويوستينوس ابن نابلس في فلسطين. كل ما نجده عند هؤلاء الكتَّاب حول الكهنوت هو كلمة عابرة تلقي بعض الضوء. ويجب أن ننتظر القرن الثالث لنجد عند أوريجانس وعند قبريانس، لا نظرية حول الكمال الكهنوتي، بل إشارات عديدة تتيح لنا أن نكوّن فكرة ولو قليلة عن الكهنوت.
كيف نفسّر هذا الصمت؟ إن الآباء لم يكتبوا لنا، بل لمعاصريهم الذين ما كانوا يحتاجون أن يحدَّثوا عن أمور يرونها في الحياة اليوميّة. فما إن وُجدت كنائس حتّى وُجد أساقفة يترأسونها. وبجانب الأساقفة الكهنة والشمامسة. كيف تبدو أصول الأسقفيّة بالنسبة إلى المسيحيين في القرن الأول أو القرن الثاني المسيحيّ؟ ونبدأ مع اكلمنضوس(88- 97) في رسالته الأولى إلى الكورنثيين.
وكلمة (الكهنوت) على وزن (الملكوت) و (الجبروت)، هي المصدر من كلمة (كاهن). وكلمة (كوهين) العبرية المرادفة للكلمة الأخيرة، تدل على الاقتراب من الله على أساس ذبيحة مقبولة أمامه ، كما تدل على الإنباء بأموره للآخرين ، وذلك بوصف العمل الثاني مترتباً على العمل الأول، أما الكلمة اللاتينية المترجمة كاهن فمعناها، كما يقول علماء اللغات، يأتي المعبر ولذلك فالمراد بها أن الكاهن هو الشخص الذي يعبر العالم ليأتي إلى الله. ومن ثم كان للكهنوت أهمية عظيمة لدى أتقياء اليهود في العهد القديم، كما له الآن لدى أتقياء المسيحيين في العهد الجديد- أما الكهانة بمعنى العرافة فلا شأن لها بهذا الكهنوت، لأنها التكهن أو الادعاء بمعرفة الأمور المستقبلة، بواسطة الاتصال بالأرواح الشيطانية أو الجان (كما يقال)، ولذلك يجب عدم الخلط بينهما.





الفصل الاول: الكهنوت عند اكلمنضس السكندري

تأخّرت كنيسة الإسكندرية، فما دخلت في التاريخ قبل القرن الثاني. وأول أسقف من أساقفتها نعرفه هو ديمتريوس (189-251). ولكن بما أن المعلّمين الغنوصيين الكبار، مثل باسيليوس وولنطينس، مارسوا نشاطهم في مصر قبل ذلك الوقت، افترض بعضهم أن المسيحيّة دخلت أولاً بواسطة الهراطقة، وأن الاورثوذكيّة ظهرت بعد ذلك كردّ على التيار الغنوصي. ولكن هذه الفرضيّة غير معقولة. فقد كتب اكلمنضوس الاسكندراني ما يلي: "إن تجمّعاتهم (= الهراطقة) البشريّة قد وُلدت بعد الكنائس الكاثوليكية. فهذا لا يحتاج إلى الخطب الطويلة لكي نبرهن عنه. فتعليم الربّ، في زمن حضوره على الأرض، بدأ في أيام أوغسطس وانتهى في منتصف عهد طيباريوس. وتعليم رسل الربّ مع خدمة بولس، انتهى في أيام نيرون. وسوف ننتظر عهد أدريانس لكي نرى مستنبطي البدع: سوف يتواصل عملهم حتىّ زمن انطونينس الأكبر... من الواضح أن هذه الهرطقات اليهوديّة وتلك التي جاءت بعدها، هي أمور جديدة وتشوّهات بالنسبة إلى الكنيسة البكر والحقيقيّة" (موشيات 7/7: 106- 107).
بدت المسيحيّة الاسكندرانيّة في أول عهدها مطبوعة بالطابع العقلّي، بعد أن كانت الإسكندرية المركز العلميّ الأهمّ للأدب الهلنستي. فكل ما هو حيّ في عالم الفكر نجده في الإسكندريّة. وحين كان اكلمنضوس يعلمّ فيها، كان الفلكيّ كلوديوس بطليموس الذي سيفرض نفسه على العلماء خلال ألف سنة، قد أنهى حياته. وفي فقه اللغة سنجد أبولونيوس وسكولس الذي كتب حول الصرف والنحو. وألّف اتيناوس مجموعة من 15 كتابًِا ضمّ فيها مقتطفات من قراءته حول العلوم. وكان أمونيوس يستعدّ ليعلّم الافلاطونيّة ويجمع حوله تلاميذ مندفعين لهذه الفلسفة.
ونقول الشيء عينه في المجال الروحيّ. إذا كان المعلّمون الغنوصيون الكبار قد ماتوا، فمدارسهم ما زالت حيّة، وتلاميذهم ينقلون التعليم بأمانة أو يصحّحونه بعض المرّات. وبين اليهود، ظلّ ذكرُ فيلون حيًا مع تفسيره الاستعاري للكتب المقدّسة: فتفسيره فرض نفسه على العقول التي تبحث عن تقارب مع الفكر اليوناني. هذه الظروف تفسّر في قدر كبير الطابع الخاص لكنيسة الإسكندريّة، حيث احتلّ المعلّمون مكانة كبيرة بحيث كسفوا التراتبيّة الكهنوتيّة. لا شك في أنه كان في رومة مدارس منذ منتصف القرن الثاني، وبدأت روح البحث حوالى سنة 200 وتطوّرت تطورًا واسعًا. ولكن كل هذا يبقى ضئيلاً بجانب الحركة التي نشاهدها في الإسكندريّة منذ بداية المسيحية، بل قبل ذلك.
أول اسم نعرفه بنتينيوس. كان معلّم اكلمنضوس الذي كتب عنه: "وجدته مختبئًا في مصر، فما بحثت عن غيره: هذه النحلة الحقيقيّة من صقلية كانت تجري في المروج وتقطف أزهار الأنبياء والرسل، لتكوّن في نفوس الذين يسمعونها كما في خليّة مقدسة شعاعات نقيّة، لا من العسل، بل من المعرفة والنور" (الموشيات 1/11: 2). ويقول أوسابيوس القيصري إن بنتينيوس كان معلمًا في مدرسة التعليم المسيحي. وكان اكلمنضوس معلمًا في خط بنتينيوس .
يبدو أن اكلمنضوس لم يكن كاهنًا. وقد ذكر الدرجات الثلاث في التراتبيّة الكهنوتيّة: "هناك ألف فريضة تتعلّق بالأشخاص المختارين، قد عبّرت عنها الكتب المقدسة: بعضها يتعلّق بالكهنة أو الأساقفة، والبعض الآخر بالشمامسة، والبعض الأخير بالأرامل" (المربي 3: 11). وفي موضع آخر، لا يتكلّم إلا عن الكهنة والشمامسة الذين يجعلهم أمام العوام: "يتوافق (الرسول) كل الموافقة بأن يكون زوج امرأة واحدة كاهنًا أو شماسًا أو من العوام، إذا مارس الزواج بلا لوم" (الموشيات 3/12: 9). ويتحدّث اكلمنضوس عن الرؤساء، عن الرعاة المكلّفين بتدبير قطيع المؤمنين (المربي1: 6). ويشير إلى هذه التراتبيّة إشارة عابرة في الموشّيات: "أما الاهتمامات المتعلّقة بالإنسان، فهناك السميا وهناك الدنيا: فالطبّ يهتمّ بالجسد والفلسفة بالنفس، والفلسفة أسمى من الطب. ويتلقّى الوالدون خدمات من أولادهم، والرؤساء من الخاضعين لهم لأنهم رؤساؤهم. ونقول الشيء عينه عن الكنيسة: يحتلّ الكهنة درجة سميا والشمامسة درجة دنيا. والملائكة يقومون بالنسبة إلى الله بهاتين الخدمتين حين يخدمونه في تدبير الأشياء الأرضية" (7/1: 3).
ذكر اكلمنضوس الكهنة والشمامسة وما ذكر الأساقفة. أتراه لم يجد تمييزًا بين الأساقفة والكهنة؟ أو هو اعتبر الأسقف أوّل الكهنة أو أوّل الشيوخ. وفي مقطع آخر من الموشيات، يقابل بين التراتبيّة الكنسيّة وصفوف الملائكة: "هذا هو شيخ الكنيسة والشماس (= الخادم) الحقيقيّ لمشيئة الله، الذي يمارس أمور الرب ويعلّمها. لا يُعتبر بارًا لأن الناس اختاروه ولأنه كاهن، بل لأنه، لأجل برارته جُعل في حلقة الكهنة (أو القسس والشيوخ). وإن لم ينَل على الأرض كرامة الكرسيّ الأول، سيجلس على أربعة وعشرين كرسيًا ويدين الشعب، كما يقول يوحنا في سفر الرؤيا... فالمراتب المتدرّجة التي نراها هنا في الكنيسة، من أساقفة وكهنة وشمامسة، هم في رأيي تقليد لمجد الملائكة ولهذا التدبير الذي تعتبره الكتب المقدسة محفوظًا للذين يسلكون في خطى الرسل ويعيشون في كمال البّر بحسب الإنجيل. سيُخطفون في السحب، كما يقول الرسول، ليقوموا بوظيفة الشمامسة، ثم يُقبلون في حلقة الكهنة حسب ترتيب المجد، لأن هناك مجدًا ومجدًا، إلى أن يدركوا قامة الإنسان الكامل" (6/13: 106- 107).
ظهر الأساقفة هنا مع الآخرين. هم يحتلّون الكرسيّ الأول. وهكذا يلتقي اكلمنضوس مع راعي هرماس فيجعل من الأسقف الكاهن الأول. ونلاحظ أن الشعب يختار الشمامسة والكهنة. وبرُّهم هو الذي يستحقّ لهم هذه الكرامة. فنفكّر ونحن نقرأ هذه النصوص برسالة بعث بها أسقف ليون إلى الباب الوتيرس: "كلّفنا أخانا ورفيقَنا ايريناوس أن يسلّمك رسائل. ونحثّك على أن تستقبله كرجل غيور على وصيّة المسيح. لو ظنّنا أن الحالة تمنح البرّ لأحد، لقدّمناه ككاهن الكنيسة، لأنه هو أيضًا كذلك" (أوسابيوس، التاريخ الكنسي 5:2). ففي نظر اكلمنضوس كما في نظر المؤمنين في ليون، »يتطلّب الكهنوت البرّ (والقداسة) ولكنه لا يزيد عليه شيئًا أو لا يكاد يزيد".
في الواقع، لا يهتمّ اكلمنضوس بالكهنوت ككهنوت ، بل بالمعلّم الذي يتولّى تلقين التعليم المسيحي. كان أمينًا لنظريّة قديمة تعتبر أن ما من إنسان شرير بإرادته، فماهى بين المعرفة والكمال، بحيث اعتبر أن أعظم وظيفة هي وظيفة المعلّم. فعليه أن يتزيّن بعدد من المزايا لكي يقوم بمهمّته خير قيام. "يجب على من يريد أن يعظ الآخرين أن يعرف إن كان يتوخّى خير القريب. إن كان لا يستسلم إلى التعليم بتسرّع وروح الحسد. إن لم تستلهم طريقتُه في نشر الكلمة المجدَ الباطل. إن كان يطلب أجرًا غير خلاص سامعيه. إذا كان يعظ لكي ينال الهدايا. إن كان يتجنّب النميمة... إن الذي يكلّم سامعين حاضرين، سيشعر مع الوقت، ويحكم ويميّز، ويفصل عن الآخرين ذاك الذي هو جدير بالسماع. يلاحظ الكلمات والطرق والعوائد والحياة والحركات والمواقف والنظرة والصوت لدى كل واحد. ملتقى الطرق والحجر والطريق التي تدوسها الأرجل والأرض الخصبة والمنطقة التي تكسوها الغابات. الأرض التي هي غنيّة، جميلة مفلوحة، وتلك التي تُكثر الزرع. أما الذي يعلّم بالكتابة، فيتنقّى أمام الله، لأنه يعلن في مؤلّفاته أنه لا يكتب حبًا بالكسب ولا طلبًا للمجد الباطل. إنه لا يخضع لهوى من الأهواء، ولا هو عبد الخوف. ولا تسيطر عليه الشهوة. إنه لا يطلب سوى خلاص قرّائه. هو لا ينال الآن أجره، بل ينتظره في الرجاء كجواب من ذلك الذي يستطيع أن يمنح الأجر العادل للعمّال" (الموشيات 1/1: 6).
نلاحظ أولاً أن المعلّم لا يختاره الشعب، كما يختار الكاهن. هو يرتبط بضميره وربِّه، لأنه يعلّم متى يروق له وكما يروق. وعمله عظيم جدًا بحيث لا يخضع لمراقبة بشريّة: ما ينظّم كلامَه هو تفكيره بخلاص النفوس، حسب الحكمة المطلوبة والفطنة. غير أن ما يقوله اكلمنضوس يجد ما يعارضه حتّى عند المسيحيين البسطاء. لهذا كتب في موشياته: "لا أجهل ما يردّده بعض الجهّال الذين يرتعبون من أقّل ضجّة، ويقولون إنه يجب أن نبقى عند الأمور الجوهريّة، تلك التي لها علاقة بالإيمان، وأن نهمل تلك الآتية من الخارج والتي هي نافلة" (1/1: 18). ويضيف: "اعتبر بعضُ الناس الذين يظنّون نفوسهم أذكياء، أنه لا يجب علينا أن نهتمّ بالفلسفة والجدل، ونعتني بدراسة الكون بل يطلبون الإيمان النقيّ والبسيط، وكأنهم يرفضون أن يعملوا في الكرمة طالبين حالاً أن يقطفوا العنب" (1/9: 43).
لا يستطيع المعلّم أن يفعل شيئًا مع هؤلاء الناس الذين يخافون الفلسفة كما يخاف الأولاد من الأقنعة (6/10: 8)، وينظرون إليها وكأنها اختراع شيطانيّ (6/8: 66). واعتبر اكلمنضوس نفسه مجبرًا على الدفاع في وجه سلطة الكنيسة الرسميّة من كهنة وأساقفة الذين لم يرضوا عن مجهود هذا المعلّم في تدجين الفلسفة القديمة ومصالحتها مع الكنيسة. إنه متعلّق بالتعليم القديم ويبغض الهرطقات ويحتقرها. ولكنه يقف على مستوى الفلسفة الرفيعة.
غير أنه كتب من أجل المؤمنين "أي غني يخلص"، فقدّم التعليم المعروف في الكنيسة. روى مثلاً خبر رئيس اللصوص الذي ردّه القديس يوحنا إلى الإيمان (ف 42). فالأسقف الذي نلتقي به في هذا الخبر هو رئيس حقيقيّ في الكنيسة: يرئس الليتورجيا، يعظ، يدبّر أموال الجماعة، يعتني بالنفوس الموكلة إليه. ويتكلّم اكلمنضوس عن هذا الأسقف بشكل طبيعيّ دون أن يخفي له دوره. هذا يعني أنه عرف بالخبرة عددًا من الأساقفة رآهم بعينيه يقومون بمهمّتهم في رعاية شعب الله. فالمعلّم الذي ألّف الموشيات والمربّي والتحريض إلى اليونان لطالبي الحكمة، قد امّحى الآن فصار مؤمنًا بسيطًا يكلّم إخوته الوضعاء، فيجعل الكهنوت في قلب الواقع المسيحيّ.

















الفصل الثاني: الكهنوت في مؤلفات أوريجانس

عاش أوريجانس، شأنه شأن اكلمنضوس، وعلّم في الإسكندريّة. كان اكلمنضوس من العوام، أما أوريجانس فكان كاهنًا. كان رجل الكنيسة حتّى قبل أن يصير كاهنًا. جعله الأسقف ديمتريوس رئيس مدرسة التعليم المسيحيّ، فمارس وظيفة رسميّة، وظيفة التعليم. واختلف مع ديمتريوس، فمضى إلى قيصرية فلسطين حيث رسم كاهنًا. فعلّم المؤمنّين البسطاء الذين جاؤوا يسمعون عظاته البيبليّة: قدّم أعمق ما في قلبه، فجاء تعليمه تفسيرًا أمينًا لتعليم الكنيسة.
1- أوريجانس المدافع عن الكهنوت
لا يقدّم أوريجانس نظرية واضحة عن الكهنوت. ولكنه يتحدّث عنه خلال عظاته فيعلمنا بوجود الأساقفة والكهنة والشمامسة، كما يخبرنا بالعبء الذي يحمله الأساقفة. في العظات حول سفر اللاويين (6: 3) نعرف أن على الأسقف أن يتميّز بالعلم والقداسة... من يُدعى إلى الاسقفيّة لا يُدعى ليُعطي الاوامر بل لكي يخدم الكنيسة كلها (عظات في أشعيا 6: 1). ولا يُطلب منه التواضع فقط. بل الخدمة حتى العبوديّة. لهذا عليه أن يتميّز بجميع الفضائل. فإذا كانت الكنيسة بناء، فالاساقفة والكهنة هم سقفه المصنوع من السرو والأرز. والسرو شجر معروف برائحة ومتانته، والارز شجر معطّر لا يفنى. شجرتان ترمزان إلى الفضيلة والعلم اللذين يجب أن يتحلّى بهما الكهنة والاساقفة (عظات نش 1: 3). إذا كان كل شيء يطلب من الكهنة أن يحكموا على نفوسهم، فلأن مهمتهم الحكم على الشعب. "قال القديس بولس: أتظن أنك تفلت من دينونة الله، من أمراء الدهر وآراء العالم؟ ولكن يقال لرؤساء وأمراء الكنائس أي الأساقفة والكهنة والشمامسة، أن لا يحسبوا أنهم يفلتون من دينونة الله إذا قبلوا بما به يدينون الناس ويحكمون عليهم" (في روم 2: 2). فكأني بأوريجانس يقول: لا تتبلبل نفسُ الذين يرئسون الكنيسة. يجب أن يكونوا بكلّيتهم لأعمالهم الروحيّة (في روم 9: 3).
أراد فرعون أن يكون لكهنته أراضٍ يملكونها، فيمارسوا فلاحة الأرض، لا فلاحة النفوس، ويولوا كل اهتمامهم بالريف لا بالشريعة. أما المسيح فطلب من كهنته أن يتجرّدوا من كل ما هو أرضيّ. وبعد أن يذكّر أوريجانس بأمر الرب (لو 14: 33) ليطبِّقه على الكهنة، يعود إلى نفسه فيهتف: "أرتجف حين أتكلّم هكذا. فأنا أول من أتهم نفسي. كيف نستطيع نحن أن نقرأ هذه الكلمات ونشرحها للشعب المسيحي، نحن الذين لا نتخلّى فقط عمّا نملك، بل نريد أن نقتني ما لم نمتلكه قبل أن نأتي إلى المسيح. لماذا؟ بما أن ضميرنا يتّهمنا، أيحقّ لنا أن نخفي ما هو حقيقيّ، أن لا نظهره في وضح النهار؟ لا أريد أن أكون خاطئًا مرتين. أنا أعترف أمام كل الشعب الذي يسمعني، أن هذا كُتب وإن لم أعمل به. فتفحّص نفسك بدقّة وانظر إلى المستوى الذي فيه تمارس كهنوتك: إذا كنتَ تنتبه إلى ما هو منظور وزمنيّ، إعلم إنك ما زلت تنتمي إلى شعب مصر" (في تك 16: 5)
2- القداسة الكهنوتيّة
إذا كان الأمر كذلك، نستنتج أن القداسة الكهنوتيّة هي عطيّة من الله نطلبها في صلاة حارّة. فالشعب له الكهنة الذين يستحقونهم ويشبهونهم. "إن أمراء الشعب وقضاة الكنيسة لا يُعطون للمؤمنين بحسب قصد الله، بل بحسب استحقاقاتهم الخاصة... إذا كان الشعب مستحقًا، منحه الله قائدًا قويًا في الأقوال والأعمال. ولكن إذا أساء الشعب أمام الله، أعطي له قاضٍ سيتألّم في أيامه من الجوع والعطش، أتحدّث عن جوع إلى سماع كلمة الله. إذن لنسلك كما يجب ولنصّل لئلاّ يحكم علينا غضب الله بجوع وعطش إلى الكلمة، لئلا ينقصنا الرجل الذي يستطيع أن يعلّمنا بمثاله وكلامه، الرجل الذي يكون مثالاً للشعب بأخلاقه وطهارته، فيقدّم له نموذجًا في الصبر وطول الأناة" (في قض 4: 3).
في العالم الذي يعيش فيه أوريجانس، ليس الكهنة الصالحون كثرًا. "بين الكهنة، من يستحقّ اليوم أن يسجّل في هذه الدرجة" (في يش 4: 2)؟ ويتابع: "اليوم، في جميع الكنائس التي تحت السماء، هناك عدد كبير بين القضاة أوكلوا بأن يهتمّوا لا بالاعمال وحسب، بل بالنفوس، ولست أدري إن كانوا جديرين بأن يمتلئوا من روح الله، فيستحقوا (مثل عتنـيئيل) شهادة الله" (في قض 3: 3).
وبين الرذائل التي يبرزها معلّم الإسكندرية الكبرياء. فالأساقفة والكهنة والشمامسة يتنافسون في طموحاتهم. هم يريدون المراكز الأولى. يحبّون أن يأخذوا أو ينالوا لقب "معلّم". هناك رجال جشعون ومراؤون يعملون لكي يصيروا شمامسة. وحين يصلون، تقودهم رغبتهم أبعد من ذلك: يريدون أن يصيروا كهنة. ولا يكتفون بهذه الكرامة فيحتالون كثيرًا لكي يستولوا على الأسقفيّة. على الأساقفة أن يكونوا خدّام الخدّام كما أوصاهم الكلمة يسوع المسيح: "بل نتصرّف أحيانًا بحيث نتجاوز أمراء الأمم الأشرار كبرياءً. فلا يبقى إلاّ أن نؤمِّن لنفوسنا حرّاسًا على مثال الملوك. نحن قاسون ولاسيّما تجاه الفقراء. حين يصلون إلينا ويطلبون طلبًا، نتفوّق بالوقاحة على المستبدين والأمراء الظالمين تجاه الآتين طالبين. هذا ما نستطيع أن نراه في عدد من الكنائس المعروفة ولا سيمّا في المدن الكبرى" (في مت 61: 8).
ومع الكبرياء حبّ المال. فتقبّلُ الدرجات المقدّسة وممارسة الخدمة هما بالنسبة إلى عدد من الكهنة والشمامسة مناسبة لاقتناء الغنى. فهناك وعّاظ كثيرون امتلأوا بروح العالم فطلبوا قبل كل شيء حياة هادئة مرفَّهة. همّهم الوحيد هو التجارة والمال والولائم (في حز 3: 7). صارت التقوى تجارة، والإنجيل وسيلة للاثراء. فإن كان يسوع بكى على أورشليم، فكم يحتاج إلى أن يبكي على الكنيسة التي هي بيت صلاة حوّلها حبّ المال والرفاه إلى مغارة لصوص. وكم نتمنّى أن لا تكون الخطيئة خطيئة رئيس الشعب (في مت 6: 21). وبين الكهنة، هناك عدد كبير يستولي على أموال الكنيسة فيؤكدون، شأنهم شأن يهوذا، أنهم يريدون الاهتمام بالفقراء. يا للتعاسة (في مت 11: 9).
3- تدبير أموال الكنيسة
هنا يتحدّث أوريجانس عن أموال الكنيسة، وتدبيرها أمر صعب. وتنظبم خدمة المحبّة يتمّ بدراية ورويّة. قال: "لنكن فطنين، حتى نمارس المحبّة مع كل واحد حسب كرامته واستحقاقه. نتذكّر ما كُتب: طوبى لمن يفهم المسكين والبائس. لا يكفي أن نوزّع أموال الكنيسة متنبهّين فقط بأن لا نحيد عن الفقير، فنقترف سرقة تجاههم. بل يجب أيضًا أن ندلّ على الفطنة: فهناك أسباب عديدة للفقر، وعلينا أن نتساءل لماذا هؤلاء الناس فقراء. ماذا يستحقّ كل واحد؟ ما كانت تربيته؟ ما هو المال الذي يحتاج إليه؟ لماذا يطلب مساعدة؟ إذن، لا نعامل المعاملة نفسها أولئك الذين تربّوا تربية قاسية منذ طفولتهم وأولئك الذين سقطوا في الشقاء بعد أن كبروا في الغنى والرفاهية. لا نعطي معونة مماثلة للرجال وللنساء، للشيوخ وللشبّان. وبين الشبّان هناك من هم أضعف من أن ينالوا طعامهم بالعمل، ولن يستطيعوا أن يقوموا ببعض أودهم. ونبحث أيضًا إن كان للفقراء أولاد يقومون بجميع واجباتهم أو يهملونها. وبمختصر الكلام، نحتاج إلى حكمة كثيرة لكي نتصرّف كما يليق بأموال الكنيسة" (في مت 61).
تدلّ هذه النصائح على حكمة لدى أوريجانس. ولكن ماذا ينفع كل هذا للكهنة الجشعين. فأموال الكنيسة طعم يجتذب عالم الكهنوت فيطلبون الكهنوت أو الأسقفيّة بجميع الوسائل. فمن أجل "الوظائف" الكهنوتيّة يلعب المال، والوراثة. وأعطى أوريجانس مثل موسى الذي لم يعيّن خلفًا له أحد أبنائه أو أبناء أخيه. "ليتعلّم أمراء الكنائس بهذا المثل أن لا يعيّنوا خلفهم بوصيّة من بين أقاربهم، وأن لا يجعلوا الوراثة مبدأ للتسلسل الكهنوتي، بل أن يسلّموا أمرهم إلى حكم الله. لا نرفع ذاك الذي تربطنا به عاطفة بشريّة. بل ذاك الذي اختاره الله".
4- الوظائف الأساسيّة في الكهنوت المسيحي
نستطيع أن نطيل هذه اللوحة المظلمة عن عالم الكهنوت في القرن الثالث المسيحيّ. لا شك في أن أوريجانس ما أراد أن يعمّم، بل انطلق من بعض الأمثلة وصوّرها بألوان فاقعة لتكون مثلاً للجميع. يبقى علينا أن نتساءل عن الوظائف الأساسيّة في الكهنوت المسيحي.
أول واجبات الأساقفة والكهنة إعلان كلمة الله. فالأسقف يشبه عظيم الكهنة عند اليهود. فما كُتب عن عظيم الكهنة في التوراة ينطبق على الأسقف. فعليه أن يدرس باهتمام شريعة الله، وينظر إليها كما في مرآة لكي يرى إن كان يحقّق في شخصه ما طلبه موسى في الماضي من رئيس الكهنة (في لا 6: 6). وليتنبّه إلى قراءة الكتاب المقدس، فيجد فيه لوحة بالفضائل التي يجب أن يمارسها وبالوظائف التي يجب أن يقوم بها (في عد 10: 3). فعمل الحبر عملان: يتعلّم من الله حين يقرأ الكتب المقدسة ويتأمّل فيها بعناية. ويعلّم الشعب. فعلى رؤساء الكنائس أن يعزّوا الشعب المؤمن ويشجّعوه بكلمات التحذير وبنعمة التنبيه. إن رسالتهم تتمّ في داخل الكنيسة. قال أوريجانس: "إن مضى أحد إلى مدينة لا مسيحيين فيها، وشرع يعلّم فيها، فليعمل ويعلّم وليدعُ إلى الايمان كل الذين يقدر أن يدعو. بعد ذلك، يقام على الذين علّمهم رئيس وأسقف" (في عد 11: 4).
خدمة التعليم هي من المهمات الرئيسية للأسقف. ولكن الأسقف لا يقوم بها وحده. فالكهنة أوكلوا أيضًا بتعليم الشعب المؤمن. وهذا ما فعله أوريجانس. والعوام أيضًا يعلّمون. فالاسكندر، أسقف أورشليم وتيوكتستس، أسقف قيصرية، طلبا من أوريجانس أن يعظ قبل رسامته الكهنوتيّة، أن يشرح الكتب المقدسّة للشعب. وبرّرا سلوكهما بمثَل أساقفة سابقين يذكرهم أوسابيوس القيصري. ولكن لم تكن العادة في الإسكندرية تسمح للعوام بإلقاء الوعظ في الكنائس، بل يُحفظ هذا الحقّ للكهنة.
فعلى الذين يعلّمون أن يوزّعوا على كل واحد حصّة من الحقيقة التي يستطيع أن يحملها. فما يُعطى للبسطاء غير ما يُعطى للكمّال. قال أوريجانس: "نلاحظ أن الرسل حين وعظوا الإيمان بالمسيح، بينّوا التعاليم التي اعتبروها ضروريّة للجميع، حتى لأولئك الذين كانوا أقلّ تقدمًا في أمور الله. وشرحوا الأسباب العميقة للذين نالوا من الروح القدس، مواهب الكلام والحكمة والعلم. اكتفوا بأن يعلنوا بعض الشيء دون أن يشرحوا السبب أو الشكل، وتركوا لأصدقاء الدراسة والحكمة في الأزمنة الآتية، مادة يستطيعون أن يتمرّسوا فيها مع ثمرة" (المبادئ 1: 3).
وعلى الكهنة أن يدلّوا على فطنتهم فلا يكشفوا للجميع، بدون تمييز، أسرارًا توكّلوا بحفظها. لا يصل الإنسان اللحمي إلى الأعمال الصوفيّة التي لا تُكشف إلا للكهنة. فهذه المعرفة ليست مفتوحة حتى للمتمرّسين والعلماء، إن لم يُرفعوا إلى الكرامة الكهنوتيّة (في عد 4: 3؛ 5: 1).
ومن واجبات الكهنة ممارسة الأسرار. يتدخّلون أولاً ليأتوا بالخطأة إلى التوبة وليصالحوهم مع ا&. ينبغي عليهم أن لايحابوا الوجوه. هم يخطأون خطأ جسيمًّا إن بدوا قاسين تجاه البعض حتى الحرم، وضعفاء تجاه الآخرين ضعفًا يصل بهم إلى الإهمال. يجب أن يكونوا كلاً للكل. وإن سقط أحد مؤمنيهم بالخطيئة، فيجب أن لايهدأ لهم بال حتى يردّوه. فهناك توبة قاسية فيها يروي الخاطئ سريره بدموعه ولا يستحي من كشف خطاياه للأسقف (في لا 2: 4). ويكون دور الأسقف بأن يقدّم ذبيحة تكفير عن الخطيئة على مثال الكاهن الأعظم الذي يتحدّث عنه سفر اللاويين.
"ليتعلّم كهنة الربّ الذين يرئسون الكنائس أنهم مشاركون للذين يحملون خطاياهم. ما معنى حمل خطيئة شخص آخر؟ إذا أخذتَ الخاطئ على حدة، إذا جئتَ به إلى التوبة بأرائك وتحريضاتك وتعاليمك ونصائحك، إذا أصلحت خطأه، إذا ملت به عن رذائله، إذا هيّأته ليرضى ا& عنه ويغفر له خطيئته، عند ذلك تكون قد حملت خطيئته" (في لا 5: 4).
وللكاهن السلطان بأن يطرد الخاطئ من الكنيسة: فقبل أن يعلن الحرم، يكون الخاطئ قد استبعد نفسه في داخله. يستطيع أن يدخل إلى صحن الكنيسة، ولكنه يبقى منفصلاً عن المؤمنين الذين يكوّنون قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا (في لا 14: 3). إن سلطة الكاهن في هذه الحال تشبه سلطة الرسل، سلطة بولس الذي سلّم زاني كورنتوس إلى الشيطان (في قض 2: 3).
في هذا المجال يقول أوريجانس في شرح انجيل متّى (12: 14): "إن الذين يطلبون درجة الأسقفيّة يستندون إلى هذه الكلمة، على مثال بطرس، ليقولوا إنهم نالوا من المخلّص مفاتيح ملكوت السماوات. وبالتالي، ما يربطونه (أي يحكمون عليه) يُربط في السماء، وما ينال منهم الغفران يُحلّ في السماء. نقول إن كلامهم صحيح شرط أن يعملوا العمل الذي لأجله قيل لبطرس: أنت صخر. وإن كانوا "صخر" بحيث يبني المسيح كنيسته عليهم ، تنطبق حقًا هذه الكلمة عليهم. فأبواب الجحيم لن تقوى على الذي يريد أن يربط ويحلّ. فإن كان هو نفسه مربوطًا برباطات ذنوبه، فباطلاً يربط ويحلّ".
تلك هي نظرة أوريجانس إلى الكهنوت. هو يطلب القداسة من الذين نالوا نعمته. ولهذا يرسم لوحة معتمة عن الكهنة على مثال ما يفعل الوعّاظ ومعلّمو الأخلاق. ومن جهة ثانية نتعرّف إلى الفضائل الكهنوتيّة والوظائف الكهنوتيّة. يجب على الكهنة أن يكونوا قدّيسين لكي يعلّموا المؤمنين التعليم القويم ويحاربوا الضلال. يجب أن يكونوا قدّيسين ليعرفوا كيف يتصرّفون بأموال الكنيسة. ليغفروا الخطايا للتائبين. هذا ما علّمه أوريجانس. وربّما عاشه ساعة رُسم كاهنًا في كنيسة قيصريّة، فجمع القول إلى العمل.









الفصل الثالث: الكهنوت عند قبريانس أسقف قرطاجة

جاء قبريانس إلى المسيحيّة متأخرًا، بعد أن تعلّم الكثير من ترتليانس الذي سمّاه معلّمه. فافترق عن معلّمه الذي كاد يدمّر أسس الكهنوت حين جعل كل السلطات الكهنوتيّة في يد العوام. أما قبريانس فأبرز كرامة الكهنوت في الكنيسة. وحين مات أعطى شعبه درسًا أخيرًا فبيّن له كيف يموت أسقف من أجل المسيح. وهكذا كانت حياة قبريانس وموته ختمًا لما حمله أسقفُ قرطاجة من تعليم عن الكهنوت المسيحي.
ثلاث محطات. كهنوت بحسب ملكيصادق. وظائف الأساقفة ومعاونيهم. الفضائل التي يتحلّى بها الأسقف والكهنة.
1- كهنوت بحسب ملكيصادق
شخص المسيح هو الذي يُشرف على الكهنوت المسيحي. فالمسيح الذي كان كاهنًا بحسب رتبة ملكيصادق، نزع الصفة الكهنوتيّة عن الكهنة الذين من سلالة هارون. كانت درجتهم موقتة، فأحلّ محلّها الدرجة النهائيّة للكهنوت الأبدي. كل الكهنة ينبثقون منه. اختفى الكهنوت القديم، وورث الكهنوت الجديد كل امتيازاته، لأنه يجب أن لا ننسى أن الرب نفسه اختار رسله أي الأساقفة ورؤساء الكنيسة (الرسائل 3/3: 3)، على مثال الله الذي اختار في الماضي قبيلة لاوي لتكون مكرّسة له (رس 1/1: 1). لهذا، فنصوص العهد القديم التي دلّت على حقوق الكهنة اليهود وواجباتهم، تنطبق منذ الآن على الأساقفة والكهنة المسيحيين الذين هم خلفاؤهم الشرعيون (رس 3: 1- 2).
فالآن الأساقفة والكهنة هم موضوع رسامة إلهية. إنهم مختارو الله. فمن وقف ضدّ أمر الله، تُعاقبه عدالةُ الله بسبب جرأته الوقحة (وحدة الكنيسة 17). فكل ما تفعله إرادةُ البشر الشرّيرة لتدمّر النظام الالهي يكون وكأنه ضد الله (وحدة 18). إذن، يجب أن نضع نصب أعيننا جلالة الله الذي يرسم كهنة المسيح (رس 16/9: 1). "حين نظنّ أن الكنيسة ترسم كهنة لا يعرف بهم الله، ندلّ على لاإيماننا بالله، على تمرّدنا على المسيح وإنجيله. حين نظنّ أن المرسومين هم غير أهل وانجاس، نعتبر أن إقامة الأساقفة في الكنيسة ليست من الله ولا تتمّ بيد الله" (رس 66: 1- 2؛ 59: 2).
إذن، سلطة الأساقفة سلطة إلهيّة. هذا ما قاله مجمع عُقد سنة 256: "واضح تعليم ربنا يسوع المسيح الذي أرسل رسله وسلّمهم وحدهم القدرة التي أعطيت له من قبل الآب. نحن خلفاء الرسل، نسوس كنيسة الله، ونعمّد إيمان المؤمنين بالقدرة عينها. لهذا، يؤدي الأساقفة حسابًا عن اداراتهم لله، لا لبشر ما ارتفع قدرهم، ولا لزملاء لهم في الأسقفيّة". "بما أن الأساقفة تسلّموا سلطانهم من ا&، فلا يؤدّون حسابًا إلاّ لله" (رس 72: 3). "ففي كل كنيسة أسقف وقاض، وهو يحلّ محلّ المسيح لزمن محدّد" (رس 59: 5).
لا شكّ أن هناك أساقفة لا يعملون مشيئة الله، ولكنهم خارج الكنيسة وضد الترتيب الانجيلي والتعليم. ولكن لا نغَشّ: ليس هؤلاء أساقفة حقيقيين. "كيف نعتبر راعيًا ذاك الذي لم يخلف أحدًا في الأسقفيّة فبدأ بنفسه. إنه غريب ودنيويّ. أما الذي يرئس كنيسة الله بفضل رسامة شرعيّة فهو راع حقيقي" (رس 69: 5). ويذهب قبريانس بعيدًا في هذا الخط: ففي نظره، كل رسامة باطلة إذا صُنعت خارج الكنيسة، لأنها ضد الرسامة الالهية. ولا يمكن أن يكون للهراطقة والمنشقين إلا أساقفة كاذبون. هنا نقرأ هجوم قبريانس على نوفاسيانس الذي ترك حظيرة الرب الوحيدة: »بحسب تأسيس المسيح، ليس هناك سوى كنيسة واحدة، انتشرت في أعضاء عديدين، في العالم كله. ومصاف أسقفيّ واحد يمثلّه عدد من الأساقفة متّحدين فيما بينهم. ومع ذلك، حاول (نوفاسيانس) رغم تعليم الله، ورغم وحدة الكنيسة في تنوّع أجزائها المرتبطة والمتماسكة في كل مكان، أن يؤسّس كنيسة بشريّة. فأرسل إلى عدد كبير من المدن رسلاً جددًا اختارهم، ووضع أساسات منظّمة جديدة. ومع أن أساقفة أجلاّء ومؤمنين وأمناء في المحنة ومرذولين بسبب الأضطهاد قد رُسموا منذ زمن بعيد في كل المناطق وفي كل المدن، تجرّأ فجعل فوقهم أساقفة آخرين هم أساقفة كذبة. فهل يستطيع أن يحيط العالم بجداله وعناده، ويحطّم تجمّع جسد الكنيسة واضعًا فيه بذار الخلاف؟ هو يجهل بلا شكّ أن المنشقّين يتحمّسون في البداية، ولكنهم لا ينمون ولا يقدرون أن يوسّعوا محاولاتهم اللاشرعيّة. حينئذ يسقطون فجأة من على مطيّتهم الفاسدة« (رس 55: 24).
يظهر الاختيار الالهي بشكل ملموس وبوسائل بشريّة. هذا ما لا شكّ فيه. والأساقفة الذين هم المسؤولون الاولون عن اختيار الأساقفة أو الكهنة، لا يقبلون إلا بأناس لا عيب فيهم. وإن أرادوا أن يطمئنوا، فليعودوا إلى الشعب الذي يعرف بعض المرات فضائل هؤلاء المرشحين أكثر منهم. "أمر الله أن يُرسم عظيم الكهنة أمام الجماعة كلها (عد 20: 25- 26). هو يعلّمنا هذا الكلام ويبيّن لنا أن الرسامة الكهنوتيّة تتم بمرأى ومسمع الشعب المؤمن، لكي تُكشف في حضور الشعب جرائمُ الأشرار ومزايا الصالحين. فتكون الرسامة صحيحة ونظامية حين يكفلها رأي الجميع وحكمهم. وليس هذا فقط من أجل رسامة الأساقفة والكهنة، بل من أجل رسامة الشمامسة. فنحن نرى أن الرسل سلكوا هذا السلوك. فالاثنا عشر دعوا شعب التلاميذ وقالوا لهم (أع 6: 2). اهتموا واتخذوا الاحتياطات بأن يدعوا الشعب كله لئلاّ يتغلغل متطفّل إلى خدمة المذبح أو الكرامة الأسقفيّة" (رس 57/5: 2- 3).
حين يكون الحديث عن اختيار الأساقفة وسائر أعضاء الكهنوت، تبدو موافقة الشعب ضروريّة جدًا. »اختير (كورنيليوس) أسقفًا بيد عدد كبير من زملائه الذين كانوا حينذاك في مدينة رومة، والذين بعثوا إلينا (بالنسبة إلى رسامته) برسائل تشرّفه وتمتدحه وتشهد له أفضل شهادة. اختير كورنيليوس أسقفًا بحكم الله ومسيحه، وبشهادة الاكليروس وموافقة الشعب الحاضر وجماعة الأساقفة الموقرين وأهل الخير" (رس 55/4).

2- وظائف الأساقفة ومعاونيهم
تتنوّع وظائف الأساقفة ومعاونيهم، لأن عليهم ترتكز الكنيسة، ولأنهم هم الذين يسوسون الكنيسة ويكونون المسؤولين عن سلوكها (رس 33/1: 1). فعليهم أولاً أن يقدّموا الذبيحة المقدسة. وينعم الكهنة أيضًا بهذا السلطان (رس 16/4: 2). فالاحتفال بالافخارستيا يتمّ حسب التقليد وأمر الرب. قد يكون هناك أساقفة بسطاء. فالرب يغفر بساطتهم. ولكن لا يستطيع أحد أن يبدّل أمر المخلّص. "فدرجتنا وواجبنا الأسقفي يدعواننا إلى المحافظة على التقليد الرباني" (رس 63: 19).
وللأساقفة سلطة التعليم وواجب التعليم: فالمنبر الذي عليه يقفون هو العلامة المنظورة لهذا الحقّ (رس 3/1: 1). يشرحون الكتب المقدسة، يذكّرون المؤمنين بواجباتهم. والكهنة يعاونون الاساقفة أو يحلّون محلّهم في خدمة الكهنوت. والأساقفة هم الخدّام العاديون للمعمودية والافخارستيا، لأن للرسل وخلفائهم أعطى المسيح سلطان الحلّ والربط، سلطان غفران الخطايا أو الاحتفاظ بها. ولكن في حالة الضرورة يستطيع الكهنة، بل الشمامسة، أن يتقبّلوا اعتراف التائبين (رس 18/1: 2).
وفي الظروف العاديّة، الأساقفة هم الذين يحدّدون التكفير الذي يجب على التائبين أن يؤدّوه. وهكذا شدّد قبريانس على سلطة الأساقفة السامية، وعلى دور الكهنة كمعاونين لهم. إذا كانت مصالحة الكهنة تتمّ بوضع يد الأسقف والكهنة، فإن الكهنة يلعبون دورًا مساعدًا لأن الأسقف هو الخادم الرئيسيّ للحلّ من الخطايا. ففي زمن الاضطهاد لا يحلّ للكهنة أن يتّخذوا مبادرات خطيرة يصالحون الجاحدين. فمثل هذا القرار يعود إلى الأسقف وحده.
الأسقف هو الرئيس الوحيد في الكنيسة. فهو يؤمّن خدمة الأسرار ويعطي التعليم. وله السلطة أيضًا بأن يضع حدًا لكل فوضى. تهجّم أحد الشمامسة على الأسقف روغاسيانس، فاشتكى إلى قبريانس وزملائه. فأجاب قبريانس باسم الجميع وهنّأ الأسقف لاعتداله. ثم أضاف: "إن السلطان الأسقفيّ وسلطة منبرك يؤهّلانك لكي تعاقب هذا الوقح في الحال وأنت متأكّد أن زملاءك يكونون راضين عمّا تستطيع أن تفعله بالنظر إلى السلطة الأسقفية تجاه هذا الشماس" (رس 3/2: 1).
فعلى الشمامسة أن لا ينسوا أن الرب نفسه اختار الرسل، أي الأساقفة ورؤساء الكنائس. أما الشمامسة فقد تأسّسوا بيد الرسل بعد الصعود ليكونوا في خدمة الأسقف والكنيسة. فعلى الشماس أن يقرّ بذنبه جهارًا، فيدلّ أنه يعرف الكرامة المرتبطة بالكهنوت، فيرضي الأسقف رئيسه. فإن رفض الطاعة، يُعزل ويُحرم (رس 3: 3). فالاساقفة يستطيعون أن يحرموا المتمرّدين، وإن وجب عليهم في موضوع هام كهذا، أن يستشيروا الكهنة بل المؤمنين، وأن يسبق الحكم تحقيق سابق. هذا ما فعله قبريانس بالنسبة إلى فيليسيسيمس وتبّاعه. "قطعنا من شركتنا... وحرمنا..." (رس 42). فالحرم عقاب كبير لأنه يساوي موتًا روحيًا حقيقيًا. في نظام العهد القديم، كان الله يحكم بالإعدام على الذين لا يخضعون لكهنته. ويحدّد ساعة الحكم للذين لا يطيعون. واليوم، »فبالسيف الروحيّ يُقتل المتكبّرون والثائرون، فيُرذلون خارج الكنيسة. حين يصيرون خارجًا، لن يستطيعوا أن يؤذوا. فبيت الله واحد، وخارجًا عن الكنيسة لا خلاص لأحد" (رس 4/5: 3).
ولا تتوقّف سلطات الأسقف عند المجال الروحي، بل تمتدّ إلى المجال الزمنيّ. فمنذ أيام قبريانس، امتلكت الكنيسة أموالاً يجب عليها أن تديرها. فهذا الغنى هو ملك الفقراء والأرامل والأيتام والسجناء. ففي قلب اضطهاد ديكيوس، كتب قبريانس إلى كهنته بأن لا يتوقّفوا عن توزيع المساعدات على الأرامل والمعاقين، عن الفقراء والمسافرين، وخاف أن لا تكفي الأموال الموجودة في الصندوق، فأرسل أموالاً أخرى لكي تتمّ أعمالُ المحبّة بسرعة وبوفرة.
في كل هذا، يبدو الأسقف مسؤولاً عن كنيسته. بل هو مسؤول أيضًا عن الكنيسة كلها. حين يختارونه، يخبر إخوته الأساقفة باختياره وينال رسائل شركة. فقبل أن يقرّ قبريانس باختيار كورنيليوس على كرسي رومة، طلب رسائل. ثم أرسل هذه الرسائل إلى أساقفة أفريقيا. وكما يريد قبريانس أن يعرف ما يحصل في سائر الكنائس، فهو يخبر زملاءه الأساقفة بما يحصل في كنيسته. في هذا السبيل كتب إلى الكهنة في رومة لتكون المشاركة بين كنيسة وكنيسة (رس 34/1: 1). وكان قبريانس على علاقات متواترة مع أساقفة أفريقيا الذين يجتمعون مرّة في السنة أو أكثر، هذا عدا عن الرسائل المتبادلة. كل هذا من أجل وحدة الكنيسة في تنوّع الكنائس. فعلى كل أسقف، وبقدر قواه، أن يعمل من أجل هذه الوحدة ويحافظ عليها ويقوّيها. فمن لا يحافظ على وحدة الروح ولا على رباط السلام، ومن ينفصل عن الكنيسة وحلقة الأساقفة، ليس له السلطة الأسقفية ولا كرامتها، لأنه ما أراد أن يحافظ على الوحدة والسلام في المصاف الأسقفيّ (رس 55/24: 4).
3- الفضائل المطلوبة من الأسقف والكهنة
بما أن للأسقف كل هذه المسؤوليات، نفهم أن من اختير لهذه المهمّة، وجب عليه أن يتحلّى بمزايا أكثر من عاديّة. فما هي الفضائل التي يطلبها قبريانس من الكهنة بشكل عام ومن الأسقف بشكل خاص؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال نقرأ ما قاله قبريانس، أسقف قرطاجة، عن كورنيليوس، أسقف رومة. "ما يعطي رسائل توصية لعزيزنا كورنيليوس، في نظر الله والمسيح والكنيسة وزملائه، هو أنه لم يصل فجأة إلى الأسقفيّة. فقد مرّ عبر جميع الخدَم الكنسية، وخدَمَ الرب مرارًا في مختلف الوظائف الدينيّة، وصعد إلى قمّة الكهنوت عابرًا الدرجات المتتالية. أما الأسقفيّة نفسها فما طلبها ولا أرادها، وما اجتاحها مثل الآخرين الذين تنفخهم الكبرياء. ولكن بهدوء وبساطة كما يكون الأشخاص الذين يختارهم الله لهذه الكرامة. كان أمينًا في العيش في البتوليّة، متحفّظًا في تواضع طبيعيّ فيه، وما استعمل العنف مع أحد ليكون أسقفًا. بل تحمّل العنف، فقبل الأسقفية مكرهًا بعد أن فُرضت عليه. اختاره أسقفًا عددٌ كبير من زملائه الذين كانوا في مدينة رومة، وأرسلوا إلينا في ما يخصّ رسامته رسائل تشرّفه وتمتدحه وتشهد له" (رس 55/2- 5).
التجرّد هو أولى الصفات المطلوبة من المرشّحين للرسامة. فكيف يستطيع أناس يجب أن يكونوا كلهم مكرّسين لخدمة الله، أن يتعلّقوا بخيرات الأرض؟ ينال الكهنة تقدمات شهرية. هذا ما يجعلهم بعيدين عن كل حاجة. ويُمنع عليهم أن يأخذوا وظائف دنيويّة. تلك كانت القاعدة في الشريعة القديمة، بالنسبة إلى اللاويين. وهكذا لا يبعدهم شيء عن خدمة الله. على مثالهم يكون الكهنة اليوم. "نريد من الذين رفعتهم الرسامةُ إلى درجة الاكليروس، في كنيسة الله، أن لا يميل بهم شيء عن خدمة الله، وأن لا يخاطروا فيلتزموا في أمور هذا الدهر وعوائقه. فبما أنهم ينعمون بتقدمات من إخوتهم تقابل العشور، يجب عليهم أن لا يتركوا المذبح والذبيحة، بل ليتكرّسوا ليلاً ونهارًا للاهتمامات الدينيّة والروحيّة" (رس 1/1: 2).
وشدّد قبريانس على العفّة الكهنوتيّة، ولاسيمّا من أجل الأسقف. لم تكن بعد العزوبة الكهنوتيّة مفروضة على الكهنة كما هي الآن في العالم اللاتيني، بل كانت القاعدة تلك التي أعلنها بولس بأن يكون الأسقف رجل امرأة واحدة. ولكن البتولية سوف تُراعى يومًا بعد يوم. تحدّث أسقف قرطاجة إلى العذارى في أبرشيّته فسماهنّ زهرة الكنيسة والزينة الساطعة للنعمة الروحيّة، وأجمل ما في قطيع المسيح. وحين يكثر عددهن، تفرح الكنيسة في أمومتها. ما كان الأسقف يقبل بأي شكوك تجاه العذارى.
وبعد التجرّد والعفّة، نجد الشجاعة كفضيلة هامّة لدى الكهنة. الشجاعة ضروريّة في كل وقت، ولاسيمّا حين تكون الكنيسة عرضة لاضطهادات عنيفة، وحين يتعرّض رؤساء الكنيسة للخطر أكثر من غيرهم. لم يستطع جميع الأساقفة أن يثبتوا. وقد سقط منهم فورتوناتيان وظلّ يمارس وظائفه الأسقفيّة مع أنه وجب عليه أن يخضع لتوبة قاسية. وغيره جحدوا وجدّفوا على الله. فالكبرياء، هي التي تجعل المعترفين يسقطون. فبعد أن شهدوا للمسيح في سجنهم، ظنّوا أن كل شيء مسموح لهم. لهذا دعا قبريانس الأساقفة والكهنة إلى التواضع.
هنا نشير أنه حين بدأ الاضطهاد، اختبأ قبريانس وظلّ يدير الكنيسة من مخبأه. ولما أحسّ أنه لا يليق به بعد ذلك أن يهرب، سلّم نفسه فمات شهيدًا على مثال الراعي الذي يبذل نفسه عن خرافه. وهكذا أعطى في حياته وموته أجمل صورة عن الكهنوت في قلب الكنيسة.



خاتمة:

ان محور العمل الكهنوتي اليوم هو تقديم الذبيحة في العشاء الرباني .
اما بالنسبة للعصر الرسولي:
من جهة المظهر العام لممارسته: كان المؤمنون في العصر الرسولي يعتقدون أن العشاء الرباني هو فقط تذكار كريم لموت المسيح كفارة عن البشر ،وايضا هو المثال الحي لاشتراك الشعب في جسد المسيح وقبول غفران دمه. وبناء عليه نرى:
(أ)-أن الرسل لم يشيدوا لممارسة العشاء الرباني بناء خاصاً يدعى هيكلاً، أو أقاموا مذبحاً ليضعوا عليه هذا العشاء، بل كانوا يقومون به في بيوت عادية، وطبعاً على موائد الطعام العادية التي فيها (أعمال2: 42).
(ب)-أنهم كانوا يمارسون العشاء الرباني دون أن يلبسوا ملابس خاصة، أو يستعملوا شموعاً أو بخوراً أو طقوساً أياً كان نوعها. كما أنهم لم يصلوا بنغمة معينة أو استعملوا آلات موسيقية مثل الدفوف والصنوج. ولم يقسموا المؤمنين إلى فرق كقسوس وشمامسة، لتقوم كل فرقة بدورها في العبادة. فضلاً عن ذلك فإن الخبز والخمر اللذين كانوا يستعملونها في هذا العشاء لم يكونا من نوع خاص، بل كانا يؤخذان من الخبز والخمر العاديين اللذين كان المؤمنون يأتون بهما إلى ولائم المحبة (كتاب الخريدة النفسية ج1 ص147).
(ج)-أنهم، مع باقي المؤمنين، كانوا يعبدون الله بنفس واحدة (أعمال2: 1)، بعيداً كل البعد عن الرياسة الدينية التي نشاهدها في الوقت الحاضر. كما أن قول الرسول للمؤمنين "إذاً يا إخوتي. حين تجتمعون للأكل (من عشاء الرب) انتظروا بعضكم بعضاً[1]"(1كورنثوس11: 33)، يدل على أنه لم يكن هناك بين المؤمنين شخص مسئول يناول بيده المشتركين في هذا العشاء، لأنه لو كان هناك مثل هذا الشخص، لكان الرسول قد أوصاه وحده أن ينتظر، حتى يحضر جميع المشتركين. ومن ثم فالعشاء الرباني كان يوضع بين أيدي المؤمنين جميعاً، وكانوا هم الذين يوزعونه بينهم وبين أنفسهم، وهم في حالة الشركة الروحية مع الرب، والخضوع القلبي لإرشاد الروح القدس لهم.
(د)-أخيراً إن قول الرسول "ولكن ليمتحن الإنسان نفسه، وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس" (1كورنثوس11: 28)، يدل على أنه لم يكن في العصر الرسولي شخص مسئول كالكاهن (مثلاً) يعترف المؤمنون أمامه بخطاياهم، حتى يصرح لهم بالاشتراك في هذا العشاء، بل أن كل واحد منهم كان يمتحن نفسه أمام الله. فإن وجد خطأ في تصرفه، اعترف به أمام الله، ثم ندم لارتكابه، واضعاً في قلبه ألا يعود إلى مثله. وبعد ذلك يشترك من تلقاء نفسه في العشاء المذكور، بما يتفق مع قدسية الذكرى التي يدل هذا العشاء عليها، وذلك تحت مسئوليته الشخصية.

قائمة المراجع:



BARKER, MARGARET. THE GREAT HIGH PRIEST. London: T&T CLARK INTERNATIONAL, 2003.
Schaff, Philip. History of the Christian Church, Volume III. London: Grand Rapids, MI: Christian CLassics Ethereal Library, 1882.
Schmemann, Alexander. The Historical Road. London: St Vladimir's Seminary Press, 1977.
Wulpi, Ben. Philosophy of Worship. London: Ben Wulpi, 2007.
وآخرون, ويليام بطرس. دائرة المعارف الكتابية. القاهرة: دار الثقافة, 1998.